د. صالح الفهدي
قال لي مسؤولٌ رفيع: لقد كُنَّا نشترطُ أن يمتلك المتقدِّم لأَي وظيفةٍ عندنا القدرة على البرمجة (Coding)، ولكننا ومع ظهور الذكاء الاصطناعي تراجعنا عن هذا الشرط، لأنَّه قد أصبح من اليسير أن يطلبَ الموظف المختص من الذكاء الاصطناعي أن يقوم بالبرمجة وبسرعةٍ بالغةٍ، ودقَّةٍ عاليةٍ.
وهذا ما فعلهُ أحدُ الشبابِ، حيثُ سَحبَ تطبيقًا خاصًّا به، كلَّف به إحدى الشركات في دولةٍ آسيوية، ليقومَ هو بتوظيف الذكاء الاصطناعي من أجلِ عمل البرمجة اللازمة له، وبطرق أفضل وأسرع مما كانت تقومُ به الشركة!!
هذا التطوُّر يدفعُنا للتساؤل: أليس من الضروري أن يتغيَّر التعليم النظامي؟ وإلى أيِّ مدى يمكنُ أن يتغيَّر؟ وهذا هذا التغيير سيقتصرُ على المحتوى أم على المُدد الزمنية الطويلة للتعليم؟ هذه أسئلةٌ مشروعةٌ علينا أن نواجهها بكلِّ مسؤولية، ووضوح، بل وبدون تأخُّر!
ما يشهده العالم من تطورات هائلة ومتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي باتت تُغيِّر العديد من النُّظم والقطاعات ما يجعلُ قطاع التعليم النظامي -سواء التعليم المدرسي أو الجامعي- أمام منعطف تاريخي يتطلب إعادة النظر في أساليبه وأهدافه التي لا تتواكب مع مستجدات العصر، بحيثُ يواكبُ فيه معطيات الذكاء الاصطناعي، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن سرعة تطوُّر الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقدرتها على أداء مهام معيَّنة قد فاقت أداء البشر في اختبارات قياسية عديدة، الأمر الذي يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى ملاءمة ما يُدرَّس حاليًا في المدارس والجامعات لمتطلبات المستقبل.
يشير تقرير نشرته الأُمم المتحدة عن "مستقبل التعليم العالي والذكاء الاصطناعي" عام 2023، أن نماذج الذكاء الاصطناعي قادرة على التفوق على أعلى 10% من البشر في امتحانات موحدة كاختبارات القبول الجامعي وبعض امتحانات الترخيص المهني، مما يعني أن كثيرًا من محتوى المناهج التقليدية وأساليب التقييم الحالية قد تفقد أهميتهما ما لم تتكيَّف المؤسسات التعليمية مع التطورات الجارية. وفي المقابل، فإنَّ أقل من 10% فقط من المؤسسات المدرسية والجامعية حول العالم كانت لديها سياسات رسمية للتعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي حتى عام 2023م، ما يشير إلى فجوة واضحة بين سرعة تطور التكنولوجيا واستجابة منظومات التعليم لها.
لقد بدت الحاجة إلى تغيير التعليم النظامي واضحةً لتواكب عصر الذكاء الاصطناعي، وذلك لعدد من الأسباب الجوهرية تتعلق بكل من الفرص التي يتيحها الذكاء الاصطناعي من جهة، والتحديات والمخاطر التي يفرضها من جهة أخرى.
ولا شكَّ بأن أبرز تلك الأسباب ما يطرأ على سوق العمل من تغيُّرات متسارعة إِثر دخول الذكاء الاصطناعي في قطاعات مختلفة، إذ يشير تقرير مستقبل الوظائف 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أنَّه يُتوقع أن يشهد نحو 23% من الوظائف تحولًا في طبيعتها خلال خمس سنوات (2023-28)، مع استحداث 69 مليون وظيفة جديدة واختفاء أو تغيُّر وظائف أخرى، كما أن 44% من المهارات الأساسية للعاملين ستتبدل بحلول عام 2028م. في الوقت الذي تحذِّر فيه اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من أن كثيرًا من الوظائف التي سيتولاها طلاب اليوم في غضون عقد من الزمن لم تظهر بعد ولم تُخترع أصلًا.
وهُنا نتوقفُ لنتأمل: ألا يعني ذلك أنَّ هناك فجوة عميقة بين ما يُعلَّم حاليًا في أنظمة التعليم وبين ما سيحتاجه الطلبة فعليًا في مستقبل لا يمكن التنبؤ به بالكامل؟!
في عام 2018 كنتُ مستضافًا في إحدى الكليات لأتحدَّث مع الطلبة الجُدد الذين سيصبحون معلمين بعد تخرُّجهم، أو أنهم اليوم -مع كتابة هذا المقال- منتشرون في مختلف المدارس، حينها سألتهم سؤالًا صادمًا: لأيِّ عامٍ تعدُّكم كلِّيتكم؟ وبعد صمتٍ عميقٍ في القاعة، أجبتُ على سؤالي: تعدكم لعام 2050م، وبالطبع كان ذلك من افتراضاتي الشخصية، ولم يكن بناءً على معلومة من إدارةِ الكلية، وكُنتُ أقصدُ بهذا السؤال أن أشطحَ بتوقعاتهم وخيالاتهم التي أصبحت اليوم مع عصر الذكاء الاصطناعي منطقية، حينها عرضتُ لهم سيناريو شركة الشحن العالمية DHL لوسائل النقل اللوجستية عام 2050.
لا شكَّ أن التعليم النظامي من الضروري أن يتغيَّر إذ لم يعد السؤال: أين أجد المعلومة؟ أو كيف أجدها؟ وهو ما كان يشير إليه المعلم: افتح الكتاب الفلاني، لتقرأ الموضوع الفلاني في الصفحة الفلانية، لا لم يعد الأمرُ كذلك، بل أصبح السؤال: كيف أستفيد من المعلومة المتاحة، وأطوِّعها لتصبح فكرة بنَّاءة يمكن الاستفادة منها، وهنا يحتاجُ الطالبُ إلى مهارات الإبداع، والتفكير النقدي، والقدرة على حل المشكلات المعقدة. إذن مهمة الطالب قد تغيَّرت من التعليم إلى التعلُّم الذاتي، ومهمة المعلم قد تغيَّرت أيضاً إلى موجِّه ومُرشد وميسِّر للطلاب نحو كيفية التعلم وكيفية تقييم المعرفة أكثر من كونه ملقّنًا للمعلومات. على أن المعلم سيبقى محور العملية التعليمية لكن مهامه ستتغيَّر لتركِّز على ما لا تستطيع التقنية تقديمه: بناء علاقات ثقةٍ ودعمٍ مع الطلاب، فَهْمُ خلفياتهم واحتياجاتهم الفردية، تحفيزهم وإلهامهم، وتوجيههم لاكتشاف شغفهم ومساراتهم.
الشاهدُ، أن التعليم النظامي لا بدَّ وأن يخضع لتغيير سريعٍ وجذري في أساليبه، ومناهجه، ومُدَده، فما حاجةُ الطالب اليوم ليقضي عمرًا طويلًا على مقاعد الدراسة، ليصل عمره إلى 25 عامًا أو يزيد، ما الحاجةُ لذلك في عصر الذكاء الاصطناعي؟
لماذا الحشو المعلوماتي، والتعامل مع الطالب على أنه "بنك معلومات" وهو نقد وجَّهه المفكر البرازيلي باولو فريري لما سمّاه "نموذج التعليم البنكي" في كتابه الشهير "تعليم المقهورين".
لقد أصبح التعليم النظامي تقليديًا في عصر الذكاء الاصطناعي، ولا بد من مراجعته، وإعادة النظر فيه، وتقييم الحاجةِ إليه، وتحديد أهدافه، في ظلِّ تسارعِ مُلفت للذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد بحاجة إلى قدرات فائقة في الذكاء العقلي، بل إلى قدرات في التعاطي معه، وتحقيق الفائدة القصوى من معطياتهِ ومنتجاته.